||

وجوب اعفاء اللحية ..الألباني .. بن باز .. بن عثيمين .. وغيرهم من المشايخ

المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني


قال رحمه الله
...... قرأت منذ بضعة أيام كتاب " الإسلام المصفى " لأحد الكتاب الغيورين على الإسلام - كما يبدو ذلك من كتابه - والحريصين على بقائه نقيا سليما كما كان في عهده صلى الله عليه وسلم فإذا به يقول - بعد أن ساق أحاديث صحيحة في الأمر بإعفاء اللحية مخالفة للمشركين - ما نصه : " والأمر بإعفائها لم يكن إلا من قبل الندب وشأنها شأن كل المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام ولا يفرضها على أتباعه بل يتركها لأذواقهم وما تتطلبه بيئاتهم وعصورهم " فانظر لهذا الغيور على أحكام الإسلام كيف مهد لنسف الأمر بإعفاء اللحية بأن حمل الأمر بها على الندب أولا ثم زعم أن الإسلام ترك هذا الأمر المندوب لأذواق المسلمين وبيئاتهم فإذا استذوقوه فعلوه لا لأنه أمر به صلى الله عليه وسلم بل لأنه موافق
لذوقهم وعصرهم وإن لم يستذوقوه تركوه غير مبالين بمخالفتهم لأمره صلى الله عليه وسلم ولو فرض أنه للندب وإني لأخشى أن يكون رأي المؤلف قريبا من هذا وإلا فما باله لم يتعرض لبيان حكم الإعفاء مع كثرة النصوص التي تتعلق به كما يأتي بيانه بينما نراه قد جزم ببيان حكم الختان مع أنه لا نص فيه كما أشار إليه فيما تقدم مع الرد عليه اللهم إلا تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم : " وفروا اللحى . . " : " حمل الفقهاء هذا الأمر على الوجوب وقالوا بحرمة حلق اللحية . . " فإنه ليس صريحا في التعبير عن رأيه الشخصي وبخاصة أنه يعلم أن مخالفة الإعفاء أكثر وأظهر من مخالفة الختان فإن كثيرا من خاصة العلماء والشيوخ قد ابتلوا بالوقوع فيها بل وبالتزين والتجمل بها بل إن بعضهم قد يتجرأ على الإفتاء بجواز حلقها ولاسيما في مصر التي يعيش فيها السيد سابق والأستاذ السمان فهذا وحده كان كافيا في أن يحمله على بيان حكم هذه المخالفة ولذلك فإني أهتبل هذه الفرصة لأبين حكم الشرع فيها وأستحسن أن يكون ذلك بالرد على تلك الفقرة التي نقلتها عن كتاب " الإسلام المصفى " لشديد صلتها بالموضوع فأقول : أولا : ذكر أن الأمر بإعفاء اللحية للندب وقد سمعنا هذا كثيرا من غيره وإبطالا لهذه الدعوى أقول : هذا خلاف ما تقرر في " علم الأصول " : أن الأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم الوجوب لقوله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " وغيره من الأدلة التي لا مجال لذكرها الآن والخروج عن هذا الأصل لا يجوز إلا بدليل صحيح تقوم به الحجة وحضرة الكاتب لم يأت بأي دليل يسوغ
له خروجه عن هذا الأصل في هذه المسألة اللهم إلا ادعاؤه أن الإسلام لا يهتم بكل المظاهر الشكلية . . ومع أنها دعوى عارية عن الدليل فإنها منقوضة أيضا بأحاديث كثيرة وهو في قولنا : ثانيا : زعم أن كل المظاهر الشكلية لا يهتم بها الإسلام وأن اللحية منها
أقول : هذا الزعم باطل قطعا لا يشك فيه ذلك أي منصف متجرد عن اتباع الهوى بعد أن يقف على الأحاديث الآتية وكلها صحيحة : 1 - عن ابن عباس قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال "
2 - عن عائشة أن جارية من الأنصار تزوجت وأنها مرضت فتمعط شعرها فأرادوا أن يصلوها فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لعن الله الواصلة والمستوصلة "
3 - عن ابن مسعود مرفوعا : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله "
4 - عن عبد الله بن عمرو قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال : " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما "
أخرج هذه الأحاديث الشيخان في " صحيحيهما " : إلا الأخير منها فتفرد به مسلم وهي مخرجة في " آداب الزفاف " و " حجاب المرأة المسلمة "
وفي الباب أحاديث كثيرة جدا وهى مادة كتاب : " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية فليراجعه من شاء
فهذه نصوص صريحة تبين أن الإسلام قد اهتم بالمظاهر الشكلية اهتماما
بالغا إلى درجة أنه لعن المخالف فيها فكيف يسوغ مع هذا أن يقال : إن كل المظاهر لا يهتم بها الإسلام . . ؟ إن كان حضرة الكاتب لم يطلع عليها فهو في منتهى الغرابة إذ يجرؤ على الكتابة في هذه المسألة التي لها ما وراءها من الفروع الكثيرة لون أن يراجع ولو مصدرا واحدا من مصادر الإسلام الأساسية وإن كان اطلع عليها فإني أخشى أن يكون جوابه عنها أنها لا توافق الذوق أو يقول : لا يقرها المنطق كما قال ذلك في مسألة نزول عيسى عليه السلام ( ص 75 ) وحينئذ أعترف بأنه لا جواب إلا الشكوى إلى الله تعالى . . مما سبق من النصوص يمكن للمسلم الذي لم تفسد فطرته أن يأخذ منها أدلة كثيرة قاطعة على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها : أولا : أمر الشارع بإعفائها والأصل في الأمر الوجوب فثبت المدعى
ثانيا : حرم تشبه الرجال بالنساء وحلق الرجل لحيته فيه تشبه بالنساء فيما هو من أظهر مظاهر أنوثتهن فثبت حرمة حلقها ولزم وجوب إعفائها
ثالثا : لعن النامصة - وهي التي تنتف شعر حاجبيها أو غير بقصد التجميل - وعلل ذلك بأنه تغيير لخلق الله تعالى والذي يحلق لحيته إنما يفعل ذلك للحسن - زعم - وهو في ذلك يغير خلقة الله تعالى فهو في حكم النامصة تماما ولا فرق إلا في اللفظ ولا أعتقد أنه يوجد اليوم على وجه الأرض ظاهري يجمد على ظاهر اللفظ ولا يمعن النظر في المعنى المقصود منه ولاسيما إذا كان مقرونا بعلة يقتضي عدم الجمود عليه كقوله عليه السلام ههنا : " . . للحسن المغيرات خلق الله "
وثمة دليل رابع وهو أنه صلى الله عليه وسلم جعل إعفاء اللحية من الفطرة كما جعل منها
قص الأظفار وحلق العانة وغير ذلك مما رواه مسلم في " صحيحه " ففيه رد صريح على الكاتب ومن ذهب مذهبه أن اللحية من أمور العادات التي يختلف الحكم فيها باختلاف الأزمان والعصور ذلك لأن الفطرة من الأمور التي لا تقبل شرعا التبدل مهما تبدلت الأعراف والعادات : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( 1 )
فإن خولفنا في هذا أيضا فإني لا أستبعد أن يأتي يوم يوجد فيه من الشيوخ والكتاب المتأثرين بالجو الفاسد الذي يعيشون فيه وقد سرت فيه عادة إعفاء شعر العانة مكان حلقه وإعفاء اللحية وإطالة الأظافر كالوحوش لا أستبعد أن يأتي يوم يقول فيه بعض أولئك بجواز هذه الأمور المخالفة للفطرة بدعوى أن العصر الذي هم فيه يستذوقها ويستحسنها وأنها من المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام بل يتركها لأذواقهم يقولون هذا ولو كان من وراء ذلك ضياع الشخصية الإسلامية التي هي من مظاهر قوة الأمة فاللهم هداك .....


" تمام المنة في التعليق على فقه السنة المؤلف : محمد ناصر الدين الألباني 1/78 "


و قال رحمه الله


خلاصة القول: إن هذا الحديث يدل على أن الأصل في إثبات هلال رمضان يكفي فيه الشاهد الواحد، ولكن ينبغي أن يكون هذا الشاهد معروفاً عند الوالي المسئول الذي يعلم إثبات هلال رمضان اعتماداً منه على هذا الشاهد الواحد.
وقد سمعتم أن الذي رأى الهلال في هذا الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وهو صحابي ابن صحابي، وهو معروف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمام المعرفة؛ فلا جرم أنه عليه الصلاة والسلام اعتمد على خبره برؤيته لهلال رمضان، وأثبت بناءً عليه شهر الصيام، لكن ليس كذلك هؤلاء الشهود الذين يشهدون في هذه الأيام؛ لا سيما إذا أردنا أن نطبق شروط المسلمين العدول المنصوص عليها في كتب الفقه، وبعضها بلا شك صواب لا ريب فيه، فإننا لا نستطيع اليوم أن نثبت هلال رمضان إلا بواسطة أفراد قليلين جداً، ولنذكر على ذلك مثلاً نضربه ونحن -كما يقال- نرمي بذلك عصفورين بحجر واحد لقد جاء في كتب الأحناف التنصيص بأن الذي يحلق لحيته لا تقبل شهادته، فهل الحُكام اليوم إذا جاءهم مخبر بإثبات هلال رمضان وهو حليق يقبلون شهادته أم لا يقبلون؟ يقبلون، بينما المنصوص عليه أن هذا لا يقبل شهادته؛ والسبب في ذلك أن حلق اللحية معصية، وهذه المعصية باتفاق الأئمة الأربعة، لا فرق بين أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد ، فكلهم متفقون على أن حلق اللحية معصية؛ لأن في ذلك ارتكاباً لمخالفات عديدة ثابتة في السنة، يكفي في ذلك مثلاً قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( حفوا الشوارب وأعفوا اللحى، وخالفوا اليهود والنصارى ) اليهود والنصارى يحلقون لحاهم فأنتم خالفوهم، الذين يقتلون المسلمين اليوم.
ولا مؤاخذة من الحاضرين المبتلين بهذه المعصية، فإن الدين النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم ) فنحن من عامة المسلمين يجب على أحدنا أن ينصح الآخرين؛ لأن الدين النصيحة كما سمعتم، لذلك فحلق اللحية معصية باتفاق الأئمة الأربعة، ونص الحنفية فيما علمت وقد يكون آخرون نصوا على ذلك: بأن من حلق لحيته لا تقبل شهادته.
أما الآن فقد أصبح حلق اللحية أمراً عادياً، وعلى العكس من ذلك أصبح الذي يوفر لحيته موضع نظر غريب جداً من جماهير الناس وكأنه متوحش، وكأنه -كما يقولون اليوم- رجعي، ولا يحسون أبداً أن إعفاء اللحية هو من أمور الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك كان الأنبياء جميعاً و بخاصة آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام -كانوا ذوي لحى، ففي القرآن الكريم: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } [طه:94] إلى آخر الآية، فهارون عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء كانوا محافظين على هذه الفطرة، فجماهير المسلمين اليوم بسبب غلبة العادات الغربية، حينما غزا الأوروبيون بلاد الإسلام بأبدانهم وبعاداتهم؛ انتشرت هذه العادات الفاجرة الفاسقة، وطبع بها جماهير المسلمين إلا القليل منهم ممن هداهم الله عز وجل، يعرفون أن نبيهم وأن أسوتهم الوحيدة كان ذا لحية جميلة، وأن هذا النبي الكريم أمرهم بأن يعفوا لحاهم ولا يتشبهوا بالكفار.
لما أصبح أكثر الناس اليوم مبتلين بحلق اللحية رأى هؤلاء الحكام أن يتساهلوا في الموضوع، وأن يقبلوا شهادة حليق اللحية، وأريد من هذا المثال أن أقول: إن هناك تساهلاً في تعديل الشهود، ولذلك فإذا تثبت الحاكم ولم يقتصر في إثبات هلال رمضان على شهادة مسلم واحد فلا مانع من ذلك؛ لأن هذا المسلم سوف لا يكون مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب من حيث إيمانه وصدقه ويقظته ونباهته من جهة، ومن جهة أخرى: فسوف لا يكون هذا الشاهد في الغالب معروفاً عند الحاكم كما كان عبد الله بن عمر معروفاً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
دروس للشيخ محمد ناصر الدين الألباني

الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 46 درسا

سماحة الوالد العلامة عبد العزيز ابن باز


وجوب إعفاء اللحية
وتحريم حلقها وتقصيرها
لسماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد ورد إلي سؤال عن حكم حلق اللحية أو قصها، وهل يكون من حلقها متعمدا معتقدا حل ذلك كافر؟ وهل يقتضي حديث ابن عمر رضي الله عنهما وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها أم لا يقتضي إلا استحباب الإعفاء؟
جواب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: « قصوا الشوارب وأعفوا اللحى، خالفوا المشركين » متفق على صحته، ورواه البخاري في صحيحه بلفظ: « قصوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين » ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس » ، وهذا اللفظ في الأحاديث المذكورة يقتضي وجوب إعفاء اللحى وإرخائها وتحريم حلقها وقصها؛ لأن الأصل في الأوامر هو الوجوب، والأصل في النواهي هو التحريم - ما لم يرد ما يدل على خلاف ذلك - وهو المعتمد عند أهل العلم، وقد قال الله سبحانه: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، وقال عز وجل: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قال الإمام أحمد رحمه الله: الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله - يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم - أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الأمر في هذه الأحاديث ونحوها للاستحباب، أما الحديث الذي رواه الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها فهو حديث باطل عند أهل العلم؛ لأن في إسناده رجل يدعى عمر بن هارون البلخي، وهو متهم بالكذب، وقد انفرد بهذا الحديث دون غيره من رواة الأخبار، مع مخالفته للأحاديث الصحيحة فعلم بذلك أنه باطل لا يجوز التعويل عليه، ولا الاحتجاج به في مخالفة السنة الصحيحة، والله المستعان.
ولا شك أن الحلق أشد في الإثم؛ لأنه استئصال للحية بالكلية، ومبالغة في فعل المنكر، والتشبه بالنساء، أما القص والتخفيف فلا شك أن ذلك منكر، ومخالف للأحاديث الصحيحة، ولكنه دون الحلق.
أما حكم من فعل ذلك فهو عاص وليس بكافر ولو اعتقد الحل بناء على فهم خاطئ أو تقليد لبعض العلماء، والواجب أن ينصح ويحذر من هذا المنكر؛ لأن حكم اللحية في الجملة فيه خلاف بين أهل العلم هل يجب توفيرها أو يجوز قصها؟ أما الحلق فلا أعلم أحدا من أهل العلم قال بجوازه، ولكن لا يلزم من ذلك كفر من ظن جوازه لجهل أو تقليد، بخلاف الأمور المحرمة المعلومة من الدين بالضرورة لظهور أدلتها، فإن استباحتها كفر أكبر إذا كان المستبيح ممن عاش بين المسلمين، فإن كان ممن عاش بين الكفرة أو في بادية بعيدة عن أهل العلم فإن مثله توضح له الأدلة، فإذا أصر على الاستباحة كفر، ومن أمثلة ذلك: الزنا، والخمر، ولحم الخنزير وأشباهها، فإن هذه الأمور وأمثالها معلوم تحريمها من الدين بالضرورة، وأدلتها ظاهرة في الكتاب والسنة، فلا يلتفت إلى دعوى الجهل بها إذا كان من استحلها مثله لا يجهل ذلك كما تقدم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن، إنه سميع قريب..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سألني بعض الإخوان عن الأسئلة التالية:
1- هل تربية اللحية واجبة أو جائزة؟
2- هل حلقها ذنب أو إخلال بالدين ؟
3- هل حلقها جائز مع تربية الشنب ؟
والجواب عن هذه الأسئلة: أن نقول:
قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أحفوا الشوارب ووفروا اللحى، خالفوا المشركين » ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس » ، وخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من لم يأخذ من شاربه فليس منا » ، قال العلامة الكبير، والحافظ الشهير: أبو محمد بن حزم : "اتفق العلماء على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض" .
والأحاديث في هذا الباب، وكلام أهل العلم فيما يتعلق بإحفاء الشوارب وتوفير اللحى وإكرامها وإرخائها كثير لا يتيسر استقصاء الكثير منه في هذه الرسالة.
ومما تقدم من الأحاديث، وما نقله ابن حزم من الإجماع - تعلم الجواب عن الأسئلة الثلاثة، وخلاصته: أن تربية اللحية، وتوفيرها، وإرخاءها فرض لا يجوز تركه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وأمره على الوجوب، كما قال الله عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
وهكذا قص الشارب واجب، وإحفاؤه أفضل، أما توفيره أو اتخاذ الشنبات فذلك لا يجوز؛ لأنه يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: « قصوا الشوارب »« أحفوا الشوارب »« جزوا الشوارب »« من لم يأخذ من شاربه فليس منا » وهذه الألفاظ الأربعة كلها جاءت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اللفظ الأخير: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: « من لم يأخذ من شاربه فليس منا » وعيد شديد وتحذير أكيد، وذلك يوجب للمسلم الحذر مما نهى الله عنه ورسوله، والمبادرة إلى امتثال ما أمر الله به ورسوله، ومن ذلك تعلم أيضا أن إعفاء الشارب واتخاذ الشنبات ذنب من الذنوب ومعصية من المعاصي، وهكذا حلق اللحية وتقصيرها من جملة الذنوب والمعاصي التي تنقص الإيمان وتضعفه ويخشى منها حلول غضب الله ونقمته. وفي الأحاديث المذكورة آنفا الدلالة على أن إطالة الشوارب وحلق اللحى وتقصيرها من مشابهة المجوس والمشركين، والتشبه بهم منكر لا يجوز فعله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من تشبه بقوم فهو منهم » ، وأرجو أن يكون في هذا الجواب كفاية ومقنع. والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مفتي عام المملكة
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز

العلامة محمد بن صالح العثيمين



الخطبة الرابعة في حكم إعفاء اللحية وتغيير الشيب
للعلامة محمد بن صالح العثيمين

الحمد لله الذي فطر الخلق على الدين القيم ملة محمد وإبراهيم ، ووفق من شاء برحمته ، فاستقام على هدى النبيين والمرسلين ، وخذل من شاء بحكمته ، فرغب عن هديهم وسنتهم ، وكان من الخاسرين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها الفوز بدار النعيم والنجاة من العذاب الأليم ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الخلق طريقة وأقومهم شريعة وأقربهم إلى الخير العميم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما .
عباد الله : لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا خطب يوم الجمعة : « أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها » . ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، والهدي هو الطريق والشريعة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات والأخلاق الظاهرة والباطنة ، ولقد كان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ، وهديه الكامل إعفاء اللحية ، وإحفاء الشارب قال جابر بن سمرة : كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية ؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يعفي لحيته ، وكذلك الأنبياء الكرام قبله ، قال الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى : { يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي } . وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعفي لحيته ، فقد أمر أمته بذلك كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « وفروا اللحي واحفوا الشوارب » فاجتمع في هاتين الفطرتين أعني إحفاء الشوارب ، وإعفاء اللحى قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، وتبين أن هذا هو هديه
، وهدي الأنبياء قبله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم » فتمسكوا أيها المسلمون بهدي نبيكم ، فإنه خير لكم في الدنيا والآخرة ، إن التمسك بهديه يورث الوجه نضرة ، والقلب سرورا ، والصدر انشراحا ، والبصيرة نورا إن الحياة الطيبة ، ونعيم القلب والروح لا يحصلان إلا بالإيمان والعمل الصالح ، قال الله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . ولا سيما إذا التزم العبد شريعة الله مع قوة الداعي إلى مخالفتها ، فإن ذلك أعظم لأجره ، وأكمل لإيمانه ، فالإنسان ربما يشق عليه إعفاء اللحية ؛ لأنه ينظر إلى أناس نظراء له قد حلقوا لحاهم فيحلق لحيته اتباعا لهم ولكن هذا في الواقع استسلام للهوى وضعف في العزيمة ، وإلا فلو حكم عقله ، وقارن بين مصلحة إعفائها ، ومضرة حلقها لهان عليه إعفاؤها ، وسهل عليه الأمر ، ولعله أن يكون باب خير لنظرائه وأشكاله ، فيقتدون به لا سيما إذا كان عنده قدرة على الكلام والإقناع وإذا كان إبقاء اللحية شاقا عليه لما
ذكرناه كان أجره عند الله أكبر وأعظم ، ولقد كان بعض الناس يظن أن إعفاء اللحية ، أو حلقها من الأمور العادية التي يتبع الناس فيها عادة أهل وقتهم ، وهذا ظن غير صحيح ، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها ، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فامتثال أمره فيه عبادة ، ثم لو فرض أنه عادة ، فلنسأل أيما أفضل عادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها ، وفعلها بنفسه ، وفعلها الأنبياء قبله ، وجرى عليها السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان أيما أفضل عادة هؤلاء أم عادة قوم يخالفونهم في ذلك ؟ وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن حلق اللحية حرام ، وقال شيخنا عبد الرحمن السعدي في خطبة له : أيها الناس اتقوا الله ، وتمسكوا بهدي نبيكم المصطفى ، وامتثلوا أوامره ، واجتنبوا ما عنه زجر ونهى ، فقد أمركم بحف الشوارب ، وإعفاء اللحى ، وأخبركم أن حلق اللحى وقصها من هدي الكفار والمشركين ، ومن تشبه بقوم فهو منهم إلى أن قال : فالله الله عباد الله في لزوم دينكم ، ولا تختاروا عليه سواه ، فوالله ما في الاقتداء بأهل الشر إلا الخزي والندامة ، ولا في الاقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم
إلا الصلاح والفلاح والكرامة ، وإياكم أن تصبغوها بالسواد ، فقد نهى عن ذلك خير العباد هذا كلام شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله ، وقال شيخنا عبد العزيز بن باز في جواب له في مجلة الجامعة الإسلامية عن سؤال يقول : ما حكم حلق اللحى أو تقصيرها هل هو مكروه أو محرم ؟ فأجاب قد ثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ذلك محرم ومنكر فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه ، ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من فعل ذلك من المسلمين ، فإن الحق أحق بالاتباع ، ولو تركه الناس . أ هـ .

الضياء اللامع من الخطب الجوامع المؤلف : محمد بن صالح العثيمين 1/276

وقال رحمه الله
المسألة الخامسة: في إعفاء اللحية، فإعفاء اللحية من سنن المرسلين السابقين واللاحقين، قال الله تعالى عن هارون أنه قال لأخيه شقيقه موسى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى" إِسْرا"ءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى } وكان خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم قد أعفى لحيته، وكذلك كان خلفاؤه، وأصحابه، وأئمة الإسلام وعامتهم في غير العصور المتأخرة التي خالف فيها الكثير ما كان عليه نبيهم صلى الله عليه وسلم وسلفهم الصالح رضوان الله عليهم، فهي هدي الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وهي من الفطرة التي خلق الله الناس عليها كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، ولهذا كان القول الراجح تحريم حلقها كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها وتوفيرها.
وأما كون الحكمة من إبقائها مخالفة اليهود وانتفت الآن فغير مسلَّم؛ لأن العلة ليست مخالفة اليهود فقط بل الثابت في الصحيحين خالفوا المشركين، وفي صحيح مسلم أيضاً خالفوا المجوس، ثم إن المخالفة لهؤلاء ليست وحدها هي العلة؛ بل هناك علة أخرى أو أكثر مثل موافقة هدي الرسل عليهم الصلاة والسلام في إبقائها، ولزوم مقتضى الفطرة، وعدم تغيير خلق الله فيما لم يأذن به الله، فكل هذه علل موجبات لإبقائها وإعفائها مع مخالفة أعداء الله من المشركين والمجوس واليهود.
ثم إن ادعاء انتفائها غير مسلم، فإن أكثر أعداء الله اليوم من اليهود وغيرهم، يحلقون لحاهم، كما يعرف ذلك من له خبرة بأحوال الأمم وأعمالهم، ثم على فرض أن يكون أكثر هؤلاء اليوم يعفون لحاهم، فإن هذا لا يزيل مشروعية إعفائها؛ لأن تشبه أعداء الإسلام بما شرع لأهل الإسلام لا يسلبه الشرعية، بل ينبغي أن تزداد به تمسكاً حيث تشبهوا بنا فيه وصاروا تبعاً لنا، وأيدوا حسنه ورجعوا إلى مقتضى الفطرة.
وأما كون بعض الدول الإسلامية يعتبرون اللحية تطرفاً دينياً، فإننا نسأل: ماذا يعنون بالتطرف؟
أيعنون التطرف إلى زاوية الانحراف؟ أم إلى زاوية التمسك والحفاظ على شعار المسلمين، وهدي النبيين، والمرسلين؟
فإن أرادوا الأول فاعتبارهم غير صحيح، وكيف يكون هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه وأصحابه، وسلف الأمة تطرفاً إلى زاوية الانحراف؟! ومن اعتبر ذلك تطرفاً إلى زاوية الانحراف فقد طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه وصار هو المتطرف.
وإن أرادوا الثاني فنحن سنتمسك بديننا، ونحافظ على شعارنا، وهدي الأنبياء والرسل، وليعتبروه ما شاؤوا من تطرف أو توسط، فالحق لا ينقلب باطلاً باعتبار المفاهيم الخاطئة، كما لا ينقلب الماء الزلال زعافاً باعتبار فساد ذوق المريض.
وأما توهم التعرض للخطر بإعفاء اللحية، فهذا من الوساوس التي لا حقيقة لها، وإنما يلقيها الشيطان في القلب، ثم إن قدر لها حقيقة فالواجب على المسلم أن يصبر إذا أوذي في الله وأن لا يجعل فتنة الناس كعذاب الله.
أسأل الله أن يعيننا جميعاً على التمسك بشعائر الإسلام، وهدي خير الأنام، ظاهراً وباطناً، وأن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 16/27

وسُئل الشيخ : عما يقوله بعض الناس من أن علة إعفاء اللحى مخالفة المجوس والنصارى كما في الحديث وهي علة ليست بقائمة الآن لأنهم يعفون لحاهم ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : جوابنا على هذا من وجوه :
الوجه الأول : أن إعفاء اللحية ليس من أجل المخالفة فحسب ، بل هو من الفطرة كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ، فإن إعفاء اللحي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها وعلى استحسانها ، واستقباح ما سواها .
الوجه الثاني : أن اليهود والنصارى والمجوس الآن ليسوا يعفون لحاهم كلهم ولا ربعهم بل أكثرهم يحلقون لحاهم كما هو مشاهد وواقع .



الوجه الثالث : أن الحكم إذا ثبت شرعاً من أجل معنى زال وكان هذا الحكم موافقاً للفطرة او لشعيرة من شعائر الإسلام فإنه يبقى ولو زال السبب ، ألا ترى إلى الرَّمل في الطواف كان سببه أن يُظهر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الجلد والقوة أمام المشركين الذين قالوا إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ومع ذلك فقد زالت هذه العلة وبقى الحكم حيث رمل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع .
فالحاصل : أن الواجب أن المؤمن إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يقول سمعنا وأطعنا كما قال الله تعالى : " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ، ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون "(1) . ولا يكونوا كالذين قالوا سمعنا وعصينا أو يلتمسوا العلل الواهية والأعذار التي لا اصل لها فإن هذا شأن من لم يكن مستسلماً العلل الواهية والأعذار التي لا أصل لها فإن هذا شأن من لم يكن مستسلما ًغاية الاستسلام لأمر الله ورسوله يقول الله عز وجلّ : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً " (2) . ويقول تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً "(3) . ولا أدري عن الذي يقول مثل هذا الكلام هل يستطيع أن يواجه به ربه يوم القيامة ، فعلينا أن نسمع ونطيع وأن نمتثل أمر الله ورسوله على كل حال .
__________
(1) سورة النور ، الآيتان : 51 ، 52.
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
(3) سورة النساء ، الآية : 65 .

سُئل الشيخ : هل يجوز تقصير اللحية خصوصاً ما زاد على القبضة فقد سمعنا أنه يجوز؟
فأجاب فضيلته بقوله : جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب " . هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : " خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى " وفي لفظ : " أعفوا " وله من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب وأرخو ا اللحى خالفوا المجوس " . وله من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عشرٌ من الفطرة : قص الشارب وإعفاء اللحية " وذكر بقية الحديث .
وهذه الأحاديث تدل على وجوب ترك اللحية على ما هي عليه وافية موفرة عافية مستوفية ، وأن في ذلك فائدتين عظيمتين .:
إحداهما : مخالفة المشركين حيث كانوا يقصونها أو يحلقونها ، ومخالفة المشركين فيما هو من خصائصهم أمر واجب ، ليظهر التباين بين المؤمنين والكافرين في الظاهر كما هو حاصل في الباطن ، فإن الموافقة في الظاهر ربما تجر إلى محبتهم وتعظيمهم والشعور بأنه لا فرق بينهم وبين المؤمنين ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أقل أحوال هذا الحديث التحريم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم " .
ثم إن في موافقة الكفار تعزيزاً لما هم عليه ، ووسيلة لافتخارهم وعلوهم على المسلمين حيث يرون المسلمين أتباعاً لهم ، مقلدين لهم ، ولهذا كان من المتقرر عند أهل الخبرة في التاريخ أن الأضعف دائماً يقلد الأقوى .
الفائدة الثانية : أن في إعفاء اللحية موافقة للفطرة التي فطر الله الخلق على حسنها وقبح مخالفتها ، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته . وبهذا علم أنه ليست العلة من إعفاء اللحية مخالفة المشركين فقط بل هناك علة أخرى وهي موافقة الفطرة .
ومن فوائد إعفاء اللحية : موافقة عباد الله الصالحين من المرسلين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى صلى الله عليهما وسلم : " يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي وولا برأسي " (1) . وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان كثير شعر اللحية .
أما ما سمعتم من بعض الناس أنه يجوز تقصير اللحية خصوصاً ما زاد على القبضة ، فقد ذهب إليه بعض أهل العلم فيما زاد على القبضة ، وقالوا : إنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة استناداً إلى ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد أخذه . ولكن الأولى الأخذ بما دل عليه العموم في الأحاديث السابقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن حالاً من حال .

مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 11/84


العلامة صالح بن فوزان الفوزان


- حكم إعفاء اللحية :
ثم بحث المؤلف في موضوع إعفاء اللحية في صفحة ( 81 ) من الطبعة الرابعة لكتابه ووقع منه أخطاء في هذا الموضوع إليك بيانها :
الخطأ الأول : قوله ( وليس المراد بإعفائها ألا يأخذ منها شيئا أصلا فذلك قد يؤدي إلى طولها طولا فاحشا يتأذى به صاحبها . بل يأخذ من طولها وعرضها كما روي ذلك في حديث عند الترمذي وكما كان يفعل بعض السلف . اهـ .
فقوله : ليس المراد بإعفائها أن لا يأخذ منها شيئا - نقول عنه : بلى والله إن هذا هو المراد بإعفائها الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة وقال به الأئمة .
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم ( 3-194 ) : وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى : ( أوفوا ) في الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك . إلى أن قال فحصل خمس روايات ( أعفوا . وأوفوا . وأرخوا . وأرجوا . ووفروا ) ومعناها كلها تركها على حالها هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه - اهـ . وقال مثل ذلك الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-131 ) .
وقول المؤلف : بل يأخذ من طولها وعرضها كما روى ذلك في حديث عند الترمذي . نقول هذا الحديث الذي أشار إليه حديث لا تقوم به حجة لأنه ضعيف جدا وألحقه بعض العلماء بالموضوعات - قال الحافظ ابن حجر في الفتح : وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال في رواية عمر بن هارون لا أعلم له حديث منكرا إلا هذا - اهـ .
وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا جماعة - اهـ كلام الحافظ وقال الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-131 ) ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ) وقال غريب قال سمعت محمد بن إسماعيل يعني البخاري يقول : عمر بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث ولا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث انتهى . وقال في التقريب إنه متروك - قال الشوكاني : فعلى هذا أنها لا تقوم بالحديث حجة [ ببعض اختصار ] اهـ .
وقال النووي في المجموع شرح المهذب وأما حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به . اهـ ( 1-290 )
وقول المؤلف : وكما كان يفعل بعض السلف - نقول الحجة فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا فيما خالفه - قال الشوكاني في نيل الأوطار ( 1-138 ) على قول صاحب المنتقى : ( وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه ) قال : وقد استدل بذلك بعض أهل العلم . والروايات المرفوعة ترده - انتهى ونقول أيضا لم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنه كان يأخذ من لحيته بل هم متمسكون بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بإعفاء اللحية . نعم جاء عن ابن عمر كما تقدم أنه إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته وأخذ ما زاد على القبضة وليس في هذا دلالة على الأخذ من اللحية مطلقا وإنما يفعله ابن عمر إذا أدى نسكا حجا أو عمرة مع حلقه لشعر رأسه أو تقصيره يأخذ ما زاد على القبضة . فنطالب الأستاذ بصحة ما نقله عن السلف المعتبرين من أخذ شيء من لحاهم وأنى له ذلك .
الخطأ الثاني : قول المؤلف : ( وبهذا نرى أن في حلق اللحية ثلاثة أقوال : قول بالتحريم وهو الذي ذكره ابن تيمية وغيره . وقول بالكراهة وهو الذي ذكر في الفتح عن عياض ولم يذكر غيره . وقول بالإباحة وهو الذي يقول به بعض علماء العصر . ولعل أوسطها وأقربها وأعدلها وهو القول بالكراهة فإن الأمر لا يدل على الوجوب جزما وإن علل بمخالفة الكفار وأقرب مثل على ذلك هو الأمر بصبغ الشيب مخالفة لليهود والنصارى فإن بعض الصحابة لم يصبغوا فدل على أن الأمر للاستحباب .
صحيح أنه لم ينقل عن أحد من السلف حلق اللحية ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم ) . اهـ .
نقول : إن ترجيح المؤلف للقول بكراهة حلق اللحية فقط ترجيح باطل لا دليل عليه . والأدلة الصحيحة تقتضي خلافه وتدل على أن الصواب هو القول الأول وهو تحريم حلق اللحية . قال ابن حزم في مراتب الإجماع صحيفة ( 157 ) واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز . اهـ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد .
وأما قياس المؤلف الأمر بإعفاء اللحية على الأمر بصبغ الشيب في أن كلا منهما يفيد الاستحباب فهو قياس باطل لأنه قياس مع الفارق إذ الأمر بإعفاء اللحية لم يأت ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب بخلاف الأمر بصبغ الشيب فقد جاء ما يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب قال النووي في شرح صحيح مسلم : ( 14-80 ) وقال القاضي : اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفي جنسه فقال بعضهم ترك الخضاب أفضل ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تغيير الشيب . ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شيبه . روي هذا عن عمر وعلي وأُبَيّ وآخرين رضي الله عنهم . وقال آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره ، إلى أن قال : قال الطبري الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة والنهي لمن له شمط فقط قال : واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض خلافه في ذلك . اهـ .
ونقول أيضا ليست العلة في إعفاء اللحية مخالفة الكفار فقط كما في الصبغ بل وكون إعفائها من خصال الفطرة كما في الحديث الصحيح . وأيضا الصحابة والتباعون ومن بعدهم لم يختلفوا في مدلول الأمر بإعفاء اللحية . وقد اختلفوا في مدلول الأمر بصبغ الشيب ، فظهر من هذه الوجوه الفرق بين الأمر بإعفاء اللحية والأمر بصبغ الشيب وبطل قياس المؤلف إعفاء اللحية على صبغ الشيب .
وأما تعليله عدم حلق أحد من السلف للحيته بكونهم لم يكن بهم حاجة إليه وهي عادتهم فهو تعليل ساقط ، يكفي سقوطه عن رده .
ونقول : عدم حلق أحد منهم للحيته يدل على عدم جوازه عندهم . وقد كانوا يعظمون اللحية ويعلون من شأنها كما في قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما فقد كان أثط أي أمرد لا لحية له فقالت الأنصار : نعم السيد قيس لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجل ، هذا شأن سلفنا الصالح في اللحية وتعظيمها وأنها علامة على كمال الرجولية . وقد قرر العلماء فيمن جنى على لحيته فتساقط شعرها ولم ينبت أن على الجاني دية كاملة كما لو قتله فكيف يقال بعد هذا إن حلقها ليس بحرام ؟ ! .


الاعلام بنقد كتاب الحلال والحرام
للعلامة صالح الفوزان

وقال حفظه الله

ثم قال الكاتب : " والذي ورد في اللحية هو الأمر بإعفائها؛ مخالفة للمجوس , وأنا أرى أن ذلك لا يفيد حرمة الحلق " .
ثم علل لذلك بثلاثة أمور :
أحدها : إن الأمر بالشيء على المختار عند الحنفية لا يستلزم حرمة ضد المأمور به .
الثاني : أن الأمر بالشيء إذا اقترن بعلة معقولة المعنى؛ أي : أن الشارع لم يطلبه لذاته , بل لأمر آخر مقترن به عند صدور الأمر إذا انفك هذا المقصد عنه؛ لم يفد الأمر الوجوب , والأمر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس كما قال ابن حجر في " فتح الباري " .
الثالث : أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم , لا مطلقًا , والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الألبسة التي يلبسها الكفار , وترد من بلادهم , وليس من شعائر دينهم . راجع : " زاد المعاد " . وفي " سبل السلام " ( 2/ 156 ) أن التعليل بكون الوصال من فعل النصارى لا يقتضي التحريم . . . . . .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
أ - قوله : " إن الأمر بالشيء لا يقتضي حرمة ضد المأمور به على المختار عند الحنفية " :
جوابه أن نقول :
أولًا : الأمر بالشيء يقتضي وجوب المأمور به فالأمر بإعفاء اللحى يقتضي وجوب إعفائها , وهذا هو المطلوب .
ثانيًا : كون الأمر يقتضي حرمة ضد المأمور به أو لا يقتضي , هذا ينبني على الخلاف بين الأصوليين : هل الأمر بالشيء نهي عن ضده أو لا ؟ وفي المسألة ثلاثة أقوال : أصحها أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب؛ لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده؛ لاستحالة اجتماع الضدين .
ب - وأما قوله : أن الأمر إذا اقترن بعلة معقولة المعنى . . . . . . إلخ " .
فالجواب عنه أن نقول :
أولًا : لا نسلم أن الأمر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس فقط , بل المقصود مخالفة المجوس وكون ذلك من خصال الفطرة التي فطر الله عليه رسوله وسائر الأنبياء , ففي صحيح مسلم عن عائشة :
" عشر من الفطرة : قص الشارب , وإعفاء اللحية . . . . " الحديث . قال النووي في " شرح صحيح مسلم " ( 1/147 - 148 ) :
" وأما الفطرة؛ فقد اختلف في المراد بها هنا , فقال أبو سليمان الخطابي : ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة , وكذلك ذكره جماعة غير الخطابي؛ قالوا : ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم , وقيل : هي من الدين " ا . هـ .
ثانيًا : لو سلمنا جدلًا أن المقصود من المراد بها مخالفة المجوس فقط؛ فهذا المقصد باقٍ , لم ينفك عن الأمر؛ لأن مخالفة المجوس مطلوبة دائمًا , فيلزمه وجوب إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب , وهذا هو المطلوب .
ج - قوله : " والأوامر بالإحفاء والإعفاء المقصود منه مخالفة المجوس؛ كما قال ابن حجر في " فتح الباري " . . . . . " .
نقول : عبارة ابن حجر في " فتح الباري " ( 10/349 ) هذا نصها : " قوله : ( خالفوا المشركين ) ؛ في حديث أبي هريرة عند مسلم : ( خالفوا المجوس ) , وهو المراد من حديث ابن عمر؛ فإنهم كانوا يقصون لحاهم , ومنهم من كان يحلقها " ا . هـ . فتبين أن ابن حجر يقصد تفسير لفظة المشركين الواردة في حديث ابن عمر أن المراد بهم المجوس؛ كما في حديث أبي هريرة، ولم يرد بيان العلة وحصرها في المخالفة .
د - قوله : " ومخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقًا . . . . إلخ "
جوابه : أن الأمر بمخالفة المشركين والنهي عن التشبه بهم كل منهما عام فيما هو من شعائر دينهم وغيره مما انفردوا به من عاداتهم , ومن ادعى التخصيص؛ فعليه الدليل .
راجع : " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية ( ص 177 - 180 ) .
وقد راجعت " زاد المعاد " لابن القيم حيث أحال الكاتب عليه , فلم أجد فيه مستندًا له فيما ذكره . انظر ( 1/34 - 37 ) في ذكر ملابسه - صلى الله عليه وسلم - : فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى ابن عمر عن لباس الكفار .
هـ - وأما ما أشار إليه في " سبل السلام " من أن كون الوصال من فعل النصارى لا يقتضى التحريم؛ فقد ذكره صاحب " السبيل " من ضمن أجوبة الذين لا يرون تحريم الوصال؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واصل , وهو جواب فيه نظر , وخاص في هذه المسألة؛ لتعارض الأدلة فيها , وليس هذا مما نحن فيه .
- ثم إن الكاتب جعل مدلول حديث : ( اعفوا اللحى وخالفوا المجوس ) مثل مدلول حديث : ( صلوا بالنعال وخالفوا اليهود ) ؛ لأن الحديثين متماثلان في الصحة والورود والتعليل , وحديث الصلاة بالنعال لم يفهم أحد منه الوجوب , وحديث : ( اعفوا اللحى ) مثله , وأيضًا حديث : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون؛ فخالفوهم ) وقد فهم منه الصحابة الندب . ومقصود الكاتب من هذا كله أن يحمل مدلول حديث ( اعفوا اللحى ) على الندب كهذين الحديثين :
- ونجيب عن ذلك بجوابين :
الأول : أنا قد بينا أن المقصود بالإعفاء كونه من خصال الفطرة ومخالفة الكفار .
والجواب الثاني : أن نقول : حديث الأمر بإعفاء اللحى لم يصرفه صارف عن الوجوب إلى الندب؛ بخلاف الحديثين المذكورين معه .
وإليك ما قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 2/135 ) على حديث الصلاة بالنعال بعد أن ذكر الأحاديث التي بينها وبينه شبه تعارض؛ قال " ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث أبي هريرة وما بعده صارفًا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى الندب؛ لأن التخيير والتفويض إلى المشيئة بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب " اهـ . وقال أيضًا على حديث : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) بعد ذكر ما يعرضه ( 1/132 ) في " نيل الأوطار " :
" قال الطبري : الصواب أن الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتغيير الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة , وليس فيها تناقض , بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة , والنهي لمن له شمط فقط " .
قال : " واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم مع أن الأمر والنهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع , ولذا لم ينكر بعضهم على بعض " اهـ . وانظر : " فتح الباري " ( 10/355 ) .
ثم قال الكاتب " وقد يرد على هذا الاحتجاج بأنه يرد أن أحدًا من الصحابة حلق لحيته ليفهم منه الندب " .
قال : " والجواب : أن إعفاء اللحى عادة العرب كلهم قبل الإسلام وبعده , فيحتمل أنهم أعفوها لهذا لا للوجوب , ومعلوم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال؛ بطل به الاستدلال " .
والجواب أن نقول : ما تخوفته لازم لك؛ فإن كون الصحابة - رضي الله عنهم - أعفوا لحاهم؛ لأنهم فهموا الوجوب من أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وهذا مما يدل على حمل الحديث على الوجوب وعدم وجود الصارف له عن ذلك .
والجواب الذي ذكرته يلزم منه أن الصحابة ما أعفوا لحاهم امتثالًا لأمر الرسول وإنما أعفوها اقتداءً بعادة العرب , وهذا اتهام ينزه عنه الصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم , وهو تشكيك وليس احتمالًا , فلا يسقط به الاستدلال .
6 - ثم قال الكاتب : " وإذا ذكرت أفعال متعددة , وأعطيت حكمًا واحدًا؛ سرى هذا الحكم على جميعها , وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : ( عشر من الفطرة : قص الشارب , وإعفاء اللحية واستنشاق الماء , وقص الأظافر . . . . ) إلى آخر الحديث . وقال ابن دقيق العيد في " العدة شرح العمدة " ( 1/357 ) : الفطرة لفظ واحد استعملت في الكل , فلو أفادت مرة الوجوب ومرة الندب؛ لاستعمل اللفظ الواحد في معنيين . وقال محشيه الأمير الصنعاني ( 1/353 ) : كلها سواء في الحكم , والقول بأن بعضها غير واجب تحكم " .
يريد الكاتب من هذا أن إعفاء اللحية ليس بواجب .
- والجواب عن ذلك من وجوه :
الأول : أنه لم يذكر كلام ابن دقيق العيد بلفظه , وإنما نقله بمعناه بعبارة من عنده وهذا فيه خيانة في النقل , وغلط في اسم الشرح , فسماه باسم الحاشية , واسم الشرح " إحام الأحكام " وأما كلام الأمير الصنعاني صاحب الحاشية؛ فقد تصرف فيه وزاد ونقص , والواقع أن الصنعاني يتكلم في تقدير أحد أدلة القائلين بأن الختان سنة , وهذا نص كلامه , قال :
" والثاني : أن قرائنه التي ضم إليها وشاركه في الحكم غير واجبة , فيكون غير واجب , وإلا لكان الحكم بأن بعضها واجب وبعضها غير واجب تحكمًا , وهذا ينهض على من يقول : إنها غير واجبة " اهـ .
فقارن أيها القارئ بين عبارة الصنعاني والعبارة التي ذكرها الكاتب ونسبها للصنعاني؛ لترى :
أولًا : أن الكاتب جعل هذا رأيًا للصنعاني وهو رأي لغيره حكاه عنه .
وثانيًا : أن الكاتب زاد لفظه : " وكلها سواء في الحكم " من عنده , وأضافها للصنعاني !
وثالثًا : أن الكاتب بتر آخر العبارة , وهو يقول الصنعاني : " وهذا ينهض على من يقول : إنها غير واجبة " ؛ يعني : قرائن الختان؛ لأنه لا يناسبه .
وليس هذا لائقًا بأهل العلم والأمانة .
الوجه الثاني : أن نقول : إن الأشياء المذكورة مع إعفاء اللحية في الحديث لم يُتفق على أنها سنن , ففي بعضها خلاف قوي؛ كالمضمضة والختان والاستنشاق .
قال النووي في " شرح صحيح مسلم " ( 3/148 ) :
" ولا يمتنع قرن الواجب بغيره؛ كما قال تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [ الأنعام : 141 ] , والإيتاء واجب , والأكل ليس بواجب .
الوجه الثالث : أن وجوب إعفاء اللحية مستفاد من غير هذا الحديث؛ من أحاديث الأمر بالإعفاء وما بمعناه .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1/131 ) : " قد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات : اعفوا , وأوفوا , وأرخوا , وأرجوا , ووفروا؛ ومعناها كلها تركها على حالها " .
7 - ثم قال الكاتب :
" وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله على وسلم - كان يأخذ من لحيته من طولها ومن عرضها " .
يشير إلى حديث ورد بذلك .
- والجواب : أن الحديث في ذلك لم يثبت كما زعم , وقد كفانا الشيخ حمود التويجري - وفقه الله - ببيان درجة هذا الحديث في رده على مفتي " مجلة العربي " ؛ قال في ( ص 11 ) من الرد المذكور :
" والحديث المروي في ذلك ضعيف جدًا , وألحقه بعض العلماء بالموضوعات , وهو ما رواه الترمذي من طريق عمر بن هارون البلخي عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها .
قال الترمذي : هذا حديث غريب .
قلت (1) : وكذبه أيضًا صالح بن محمد الحافظ المعروف بجزرة , وقال ابن حبان : يروي عن الثقات المعضلات . ثم أورد له هذا الخبر , وقال ابن الجوزي حديث لا يثبت , والمتهم به عمر بن هارون . قال العقيلي : لا يعرف إلا به . وذكر الترمذي عن البخاري أنه قال : لا أعرف لعمر بن هارون حديثًا ليس له أصل - أو قال : يتفرد به - إلا هذا الحديث , ولا نعرفه إلا هذا الحديث , ولا نعرفه إلا من حديث عمرو بن هارون .
وأما أسامة بن زيد الليثي؛ فقد ضعفه القطان , وقال أحمد : ليس بشيء . وقال النسائي : ليس بالقوي " اهـ .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ( 1/131 ) بعد ذكر كلام الحفاظ في عمر بن هارون هذا : " فعلى هذا لا تقوم بالحديث حجة " .
فانظر أيها القارئ ما قاله الحفاظ في درجة هذا الحديث الذي عده الكاتب ثابتًا , وكان في أول كتابته لا يجيز الاستدلال إلا بقطعي الورود قطعي الدلالة . . . . . إلخ لتري التناقض العجيب .
8 - ثم قال الكاتب :
" والذي أقوله : إن حلق اللحية ليس حرامًا حرمة صريحة , فضلًا عن أن يكون كبيرة من الكبائر , وليس مباحًا جائزًا , ولكنه مكروه " .
ومثل هذا ما ذكر في مطلع كتابه .
- والجواب عن ذلك أن الأحاديث الصحيحة تدل على حرمة حلق اللحية , ولم يقدم الكاتب دليلًا على رأيه , فلا يلتفت إليه وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره :
" يحرم حلق اللحية " .
انظر " الاختيارات " ( ص 26 )
9 - ثم ختم الكاتب بقوله : أنه ذهب إلى أوروبا للتداوي , ورأى أن إعفاء اللحية صار شعار الطائفة الهيبيين الفاسدين , وأنها حلية المنحرفين .
فكأنه بقوله هذا يري أن إعفاء اللحية صار مهزلة وشعار فساد وموضة انحراف , فلم يثبت على رأيه أن حلق اللحية مكروه " , فما هذا التناقض ؟ !
- وهذا مصداق ما جاء في الخبر من عود المعروف منكرًا , والمنكر معروفًا , والسنة بدعة , والبدعة سنة فلا حول ولا قوة إلا بالله .
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه , وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا , وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان , واجعلنا من الراشدين .
وقد سبق إلى هذه الشبهة مفتي " مجلة العربي " حيث قال : " ونحن لو تمشينا مع التحريم لمجرد المشابهة؛ لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى؛ لأنه شأن الرهبان ورجال الكهنوت في سائر الأمم التي تخالفنا في الدين " .
فكان من رد الشيخ حمود التويجري عليه باختصار :
- أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي كان عليها الأنبياء المرسلون وأتباعهم , فموافقة الرهبان ورجال الكهنوت في إعفاء اللحى لا تضر المسلمين شيئًا , وليس ذلك من المشابهة المذمومة؛ لأن المسلمين لم يقصدوا مشابهة الرهبان وتقليدهم في إعفاء اللحى , وإنما أعفوها امتثالًا لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
2 - أن يقال : الرهبان ورجال الكهنوت هم المتشبهون بالمسلمين في إعفاء اللحى؛ إما قصدًا , وإما اتفاقًا , ومن تشبه بالمسلمين؛ فهو أحسن حالًا ممن خالفهم .
3 - مرجع الأحكام إلى الكتاب والسنة , لا إلى الرأي والنظر فما وافق الكتاب؛ والسنة فهو حق , وما خالفهما؛ فهو باطل مردود .
هذا , ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن ينصر دينه ويعلي كلمته , وأن يثبتنا على الإسلام . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .

البيان
لاخطاء بعض الكتاب

(مجموعة ردود ومناقشات في مواضيع مختلفة )

بقلم

صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان


الشيخ العلامة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي


تحريم حلق اللحى
تأليف
الشيخ العلامة :
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى وأحفوا الشوارب » ، ولهما عنه أيضا: « أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى » ، وفي رواية: « أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى » . واللحية: اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، قال ابن حجر : "وفِّروا" بتشديد الفاء، من التوفير: وهو الإبقاء، أي اتركوها وافرة، وإعفاء اللحية: تركها على حالها.
ومخالفة المشركين يفسره حديث أبي هريرة رضي الله عنه: « إن أهل الشرك يعفون شواربهم ويحفون لحاهم فخالفوهم، فأعفوا اللحى وأحفوا الشوارب » رواه البزار بسند حسن، ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خالفوا المجوس » ؛ لأنهم كانوا يقصرون لحاهم ويطولون الشوارب، ولابن حبان، عن ابن عمر قال: « ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم، فخالفوهم » فكان يحفي سباله، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من فطرة الإسلام أخذ الشارب وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها، فخالفوهم، خذوا شواربكم وأعفوا لحاكم » ، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أمرنا بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية » ، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى » ومعنى جزوا: قصوا، وأرخوا: أي أطيلوا، ورواه بعضهم بلفظ "أرجو" أي: اتركوا، وما روي بلفظ: "قصوا" لا ينافي الإحفاء؛ لأن رواية الإحفاء في الصحيحين ومعينة للمراد، وفي رواية « أوفوا اللحى » أي: اتركوها وافية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية. وقال القرطبي : لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها.
وحكى أبو محمد بن حزم: الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض، واستدل بحديث ابن عمر : « خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى » ، وبحديث زيد بن أرقم المرفوع: « من لم يأخذ شاربه فليس منا » صححه الترمذي، وبأدلة أخر، قال في الفروع: هذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم، وقال في الإقناع: ويحرم حلقها، وروى الطبراني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق » ، قال الزمخشري : معناه: صيره مثلة، بأن نتفه أو حلقه من الخدود أو غيره بسواد، وقال في النهاية: مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل: نتفه أو تغييره بسواد.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أعفوا اللحى وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى » ، وللبزار، عن ابن عباس مرفوعا: « لا تشبهوا بالأعاجم أعفوا اللحى » ، وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تشبه بقوم فهو منهم » ، وله عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى » . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، قال: ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية، وقال: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه، فمشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد فالشارع يحرمه. ا هـ.
وروي عن ابن عمر: "من تشبه بهم حتى يموت حشر معهم" ، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف » ، زاد الطبراني : « ولا تقصوا النواصي، وأحفوا الشوارب وأعفوا اللحى » ، وفي شروط عمر على أهل الذمة أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا من المسلمين، فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم « نهى عن القزع » : وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه، وعن ابن عمر - في الرأس -: « احلقه كله أو دعه » رواه أبو داود، وحلق القفا لا يجوز لمن لم يحلق رأسه كله ولم يحتج إليه؛ لأنه من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وروى ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه: حلق القفا من غير حجامة مجوسية .
وأيضا نهى الله تبارك وتعالى عن اتباع أهوائهم فقال: { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (1) ، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } (2) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم.
_________
(1) سورة المائدة، الآية : 77 .
(2) سورة البقرة، الآية : 145 .


وروى ابن أبي شيبة: « أن رجلا من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية » ، وأخرج الحارث بن أبي أسامة، عن يحيى بن كثير قال: « أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي » ، وروى ابن جرير، عن زيد بن حبيب قصة رسولي كسرى قال: « ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما، وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي » ، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية » ، وللترمذي عن عمر : « كث اللحية، » وفي رواية: « كثيف اللحية، » وفي أخرى: « عظيم اللحية، » وعن أنس : « كانت لحيته قد ملأت من ههنا
إلى ههنا ، وأمر يده على عارضيه، » ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد على القبضة؛ لفعل ابن عمر (1) ، وأكثر العلماء يكرهه، وهو أظهر لما تقدم، وقال النووي : والمختار تركها على حالها، وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا، وأخرج الخطيب، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يأخذ أحدكم من طول لحيته » ، وقال في الدر المختار: وأما الأخذ منها وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد ا هـ.
_________
(1) الحجة في روايته لا في رأيه، ولا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله أحق وأولى بالاتباع من قول غيره أو فعله كائنا من كان.


وقال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } (1) ، وقال: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (2) ، وقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ }{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } (3) ، وقال: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (4) ، وقال: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (5) .
والله تبارك وتعالى جمل الرجال باللحى، ويروى: ومن تسبيح الملائكة: سبحان من زين الرجال باللحى، وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال ا هـ.
_________
(1) سورة الأحزاب، الآية : 21 .
(2) سورة الحشر ، الآية : 7 .
(3) سورة الأنفال، الآيتان: 20، 21.
(4) سورة النور، الآية : 63.
(5) سورة النساء، الآية : 115 .


فاللحية زينة الرجال، ومن تمام الخلق، وبها ميز الله الرجال من النساء، ومن علامات الكمال، ونتفها في أول نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار (1) ، وكذلك حلقها أو قصها أو إزالتها بالنورة من أشد المنكرات، ومعصية ظاهرة، ومخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقوع فيما نهى عنه.
وذكر الغزالي في الإحياء: أن نتف الفنيكين بدعة وهما: جانبا العنفقة، قال: وشهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته، ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته.
_________
(1) قاله النووي، والغزالي وغيرهما.



قال الإمام أبو شامة : وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها، وهذا في زمانه رحمه الله فكيف لو رأى كثرة من يفعله اليوم!. وما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون!. أمرهم الله بالتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم فخالفوه وعصوه وتأسوا بالمجوس والكفرة، وأمرهم الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « أعفوا اللحى » ، « أوفوا اللحى » ، « أرخوا اللحى » ، « أرخوا اللحى » ، « وفروا اللحى » ، فعصوه وعمدوا إلى لحاهم فحلقوها، وأمرهم بحلق الشوارب فأطالوها، فعكسوا القضية، وعصوا الله جهارا؛ لتشويه ما جمل الله به أشرف شيء من ابن آدم وأجمله، { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (1) .
_________
(1) سورة فاطر، الآية : 8 .



اللهم إنا نعوذ بك من عمى القلوب، ورين الذنوب، وخزي الدنيا وعذاب الآخرة { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }{ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } (1) . وفي هذا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } (2) والله أعلم .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
جمادى الأولى - سنة 1354 هـ
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم
_________
(1) سورة الأنفال، الآيتان: 22، 23 .
(2) سورة الكهف، الآية : 17